بمناسبة الذكرى الثلاثون لمجزرة صبرا وشاتيلا، سأستعرض في هذا المقال فيلمين وثائقيين غير اعتياديين حول هذه المجزرة البشعة، والتي نُفذت على مدى ثلاثة أيام ( من الخميس 16 أيلول1982 وحتى السبت 18 ايلول).
الفيلم الأول بعنوان "مجزرة" إخراج الألمانية مونيكا بورغمان ولقمان سليم وهيرمان ثايسن ( 99 دقيقة.إنتاج ألماني/ لبناني . 2005) وهو فيلم لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه، أما الفيلم الثاني فهو "رقصة فالس مع بشير" للإسرائيلي آري فولمان ( 90 دقيقة. إنتاج إسرائيلي/غربي .2008 ) وهو فيلم رسوم متحركة يُختتم بصور حقيقة لضحايا المجزرة، والذي حظي لأسباب سيستخلصها القارئ لاحقاً بتغطية غربية واسعة واهتمام بالغ وإيجابي من قبل النقاد السينمائيين.
الفيلم الأول يقفز سريعاً عن الإطار التاريخي والسياسي للمجزرة، فبعد مقدمة قصيرة جداً ومحايدة تقريباً عن غزو إسرائيل للبنان يقودنا مخرجوا الفيلم إلى أول اللقاءات التي سجلوها بعد 20 عاماً من ارتكاب المجزرة مع ستة من القتلة الذين تلطخت( بل قل طفحت) أيديهم بدماء المدنيين الأبرياء.
الفيلم ليس فيلماً وثائقياً بالشكل التقليدي، فهو لا يهدف إلى إعادة بناء المجزرة وتقديم أحداثها كبناء متماسك كما جرت عليه العادة، وإنما تبيان هول المجزرة من خلال النبش في ذاكرة القتلة والغوص في عقلية ونفسية الجلاد ، وربط عقليتهم ببيئتهم السياسية والاجتماعية، ما يسلط الضوؤ على ظاهرة العنف الدموي الجماعي الذي يصبغ الحروب الأهلية.
وظف مخرجو الفيلم أساليباً فنية تناسب الموضوع والشخصيات. وُضع المستجوبون في إطار معتم ومقبض دون أن تظهر وجوههم. الزوايا التي عملت من خلالها الكاميرا غير اعتيادية. في المحصلة النهائية كان وقع وتأثير الفيلم قوي جداً. فهو يجعلك من خلال شهادات القتلة، التي تُعري نفسيتهم "المنحرفة" تغضب وتثور وتعاني أكثر من مجرد رؤية صور الجثث المقطعة والمنتفخة للضحايا الأبرياء. ضحايا كان جلهم، غير قادرين على الدفاع عن نفسه.
من بين ما قاله القتلة، اخترت الاقتباسات التالية:
"القتل الأول هو القتل الأصعب، تقوم به بتردد. في المرة الثانية أو الثالثة يصبح الأمر أسهل، أما في المرة الرابعة فتبدأ بالاستمتاع بذلك. كنا نقتل كما في أفلام الكاوبوي [ المستوطنون البيض المتحضرون في مواجهة الهنود الحمر الهمجيون] لم نكن ندرك أننا نقتل فعلاً" . أحدهم وصف بتلذذ عملية الذبح بالسكين.
شخص ثان:
"كنا نقتل، بلا وعي وكأننا في منافسة، كل واحد يريد أن يكون الأقوى، الأكثر إرعابا، والمنتقم الأكبر"
يذكرني هذا بشهادة أفراد كتيبة البوليس الألماني الاحتياطي رقم ( 101) في بولندا " كنا لا نريد أن ينظر إلينا أحد ضمن الكتيبة التي نعمل فيها "كجبناء أو ضعاف القلوب. لم تكن لدينا رغبة في الانفصال عن الجماعة".
على عكس" النازيين" من أفراد الكتيبة (101) الذين أبدوا جميعهم مشاعر ندم حقيقية على ما ارتكبته أيديهم( قد يكون بعضها مصطنع نتيجة الخوف من العاقبة، أو حياء من مواجهة مشاعر مجتمع ألماني لم يعد يتقبل فكرة قتل الأبرياء) فإن جميع الستة من مرتكبي مجزرة صبرا وشاتيلا ليست لديهم مشاعر ندم سياسية أو أخلاقية، فكراهيتهم للفلسطينيين تفوق على ما يبدو كراهية " الرجال العاديين" من الكتيبة (101) لليهود. احدهم تفوه بخطاب عنصري نمطي، فقال لا تشتري الفلسطيني إلا والعصا معه (على وزن هجاء ابو الطيب المتنبي لكافور الإخشيدي):
لا تشتري العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد
مع ذلك فإن بعضهم يعيش وذكريات الماضي تطارده، لكن المحنه هي محنته الذاتية. شخص خائف منهم قال "نحن لا نولد قتلة ولكن الظروف جعلت منا ذلك". هل يخفف عنهم، أن جميعهم ينتمون للشرائح الفقيرة والهامشية من المسيحيين اللبنانيين؟ بعضهم شرح كيف ضُرب بقسوة وهو صغير، تحدث عن كل رذائل أبيه الذي يضرب الأم والأبناء وينفق ماله ليشرب الخمر ويتعاطى الحشيش. على ما يبدو أعاد إنتاج والده وأسقطه على شخصية الفلسطيني وانتقم منه. كالعادة، فقراء قتلوا فقراء. لقد قتلوا أمثالهم من الفقراء الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، فصبرا وشاتيلا لم تكن كما هي في المخيلة الفلسطينية مجزرة ضد الفلسطينيين حصراً، وإن كان هم من دفع الثمن الأكبر. عائلة المقداد الشيعية القادمة من شمال لبنان والتي سكنت المخيم فاحتمت من الرمضاء بالنار(رمضاء الفقر بنار السكين) كانت العائلة المنكوبة بامتياز: 38 شخص من أفرادها، غالبيتهم من النساء منهم اثنتين حوامل بقرت بطونهم على طريقة دير ياسين. بشكل عام النساء المولولات الباكيات كن يثرن غضب القتلة. هل هو الانتقام من صورة أمهم الخانعة، أم هي سادية فقراء وقبضايات الأحياء المهمشة في بيروت وقرى جرود الجبل النائية؟
نفهم من الفيلم أن قلة من القوات اللبنانية والذين أحضروا للمخيم رفضوا المشاركة أو الاستمرار عندما رأوا بشاعة ما يحدث. هناك إعجاب لديهم بالجادجتس gadgets الإسرائيلية: اللباس الكاكي، خوذ الرأس، وسائل الإتصال الحديثة، جعب الذخيرة، المواد الغذائية المعلبة في أنابيبtubes . بعضهم استذكر رحلته على شاطئ ايلات حيث استمتعوا بمرأى نساء عاريات. وهم جميعاً، مولعون وسعداء بالضغط على الزناد.
مقارنة بالصهاينة الذين ينكرون علاقتهم بالمذبحة ويجدون لها المبررات. هؤلاء القتلة تمتعوا بصراحة مذهلة. لا احد منهم ينكر أنه قتل مدنيين(حتى الأطفال الصغار في الأسرة، والأجنة في الأرحام لم تُرحم) لايوجد خطاب تبريري أو اعتذاري. مجرد " نحن نكرههم ويجب أن يقتلوا"( ..) "نقتل المرأة الشابة لأنها تنجب أطفالا، والطفل سيكبر، وعندما يكبر سيصبح إرهابياً. فقط، جلاد واحد برر القتل حين قال ما معناه أن ضحاياهم جميعاً كانوا مسلحين.
من خلال أسئلة مخرجي الفيلم، عَرف القتلة على أنفسهم كمسيحيون يكرهون اليهود. السبب؟ "لأنهم قتلوا المسيح". وهم يدركون أن فلسطين أرض الفلسطينيين وأن اليهود اغتصبوا أرضهم، ولكن .. هم كبشير الجميل في أحلامه الوردية بشأن موقع المخيمين، يخال إليك أنهم مجرد حماة بيئة، أرادوا "تنظيف" المكان لتقام هناك حديقة عامة!!!!
الفيلم الثاني "رقصة فالس مع بشير" عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي يوم الخامس عشر من أيار2008 بمناسبة الاحتفال الستون على قيام دولة إسرائيل، حيث رُشح لنيل احد جوائز المهرجان. لكن في نهاية الأمر فإنه لم يحظى بأي جائزة تقديرية، رغم النقد الايجابي والترحيب الذي ناله في وسائل الإعلام الغربية وحتى في كثير من المقالات العربية " المُطبعة" (أو الساذجة إذا أردنا أن نُحسن النية ونكون كرماء تجاه أصحابها).
الفيلم يحكي قصة المخرج آري فولمان "الحقيقية" في رحلة بحثه الموجعة في ذكرياته؛ حيث رَقص في لحظة ضغط نفسي مع الموت أمام صورة عملاقة لبشير الجميل في بيروت ( ومن هنا جاء عنوان الفيلم).
يبدأ الفيلم، الذي يمتد 90 دقيقة، حين يُوقظ المخرج من عز النوم صديقه بوعز الذي كان معه في الحرب العدوانية على لبنان عام 1982، ليقص عليه كابوسه المستمر والذي تظهر فيه كلاب مسعورة تتعقبه لتنهشه وعددها دائما، ولا نعرف في البداية سبب ذلك، 26 كلباً!! تعسرت على فولمان معرفة تفسير ذلك الكابوس، إلا أن تأثيره عليه كان بالغاً، فقد بدأ يستعيد ليلة تلو الأخرى، كابوسه الغامض الذي ظل يراوده طويلا وأصبح مقلقا ومزعجاً له أكثر من أي وقت مضى. وللبحث عن خلفيات هذا الكابوس ومسبباته بدأ فولمان محاولة اللقاء بكل من له علاقة بكابوسه من رفاق السلاح السابقين ليعيد بناء ذاكرته المعطوبة من خلال طرح الأسئلة عليهم حول تلك الفترة المرتبطة بأحداث صبرا وشاتيلا البائسة وبمقدماتها، إذ سبق له وأن كُلف بمهام استكشاف وقنص قبل تلك الأحداث.
نكتشف لاحقاً، أن رقم 26 هو نفس العدد من الكلاب التي قتلها الجندي على مداخل قرى لبنانية. كانت الكلاب أول من يتنبه لمحاولات تسلل الجنود الإسرائيليين للقرى بصمت وتحت جنح الظلام( لتنفيذ عمليات اغتيال أو خطف "إرهابيين") فتبدأ بالنباح فتلفت الانتباه إليهم وبالتالي تتيح هرب "المطلوبين". ورغم "جمال الفكرة"، لا يملك المرء إلا أن يتساءل: لماذا كانت الكلاب وليس العائلات البريئة التي قُتلت هم "أبطال" هذه الكوابيس التي تطارد هذا الصهيوني اليساري الرحيم!! ولا نجد جوابا لهذا السؤال، إلا أن نقول، وقد نظلمه، أنه في الوعي الباطني لمخرج الفيلم، فإن شعوره بالعطف تجاه الكلاب، هو أكبر من شعوره بالعطف نحو الضحايا البشر من اللبنانيين والفلسطينيين. ( في الفيلم تُقتل عائلة لبنانية كاملة في سيارة مرسيدس عن طريق الخطأ بدون أي ذنب، في حين من الممكن "تفهم" قتل الكلاب التي كان نباحها يهدد تنفيذ مهمة الإسرائيليين وقد يعرض حتى سلامة الجنود للخطر)
خلال رحلة الفيلم، يسافر المخرج لملاقاة أصدقائه في أنحاء الأرض ( فقط اثنان من أصل 9 رفضوا أن تٌذكر أسمائهم الحقيقية) وكلما توغل في الحديث إليهم وبحث في ذاكرتهم عادت صور ما حدث لتطفو على السطح. ويكتشف المشاهد أن احد الجنود كان من أفراد القوة الإسرائيلية التي فرضت الحصار على صبرا وشاتيلا ومن الذين شاركوا في إطلاق القذائف المضيئة فوق المخيمين لتسهيل عمل فرق الموت التي كان يديرها إيلي حبيقة ويشرف عليها ضباط إسرائيليون كبار، والتي كانت مهمتها "تنظيف المخيم" وتفريغه من السكان كجزء من "رؤية" وزير الدفاع الإسرائيلي في حينه اريك شارون.( رؤية طبقها شارون قبل مذبحة مخيميَ صبرا وشاتيلا عام 1970-1972 في مخيمات غزة ، وبعد صبرا وشاتيلا في مخيم جنين عام 2002)
إن تلك المراوحة المتواصلة بين الكابوس والواقع استطاعت أن تمارس نوعا من التطهير الذاتي للتراكمات النفسية المكبوتة التي يعاني منها المخرج باعتباره جزءا من ذلك الحدث وتصبح الحكاية، التي عرضت بتقنية رسوم متحركة مبهرة وعالية الأداء من الناحية الفنية، وسيلة للشفاء من الذكريات المدمرة ( للجنود بالطبع!! وليس للضحايا!!!). فبعد أن كان الأمر بالنسبة إليه -كسائر زملائه- كمن يذهب إلى نزهة، جاء قتال المقاومة الذي قصف عُمرَ بعض رفاقه ليعيد " للمعادلة بعض التوازن حيث يصطدم بواقع يحكم القبضة عليه ويغرقه في عبثية الحرب."
بدون ادنى شك الفيلم معاد للحروب، وهو يتعامل مع الذاكرة كذاكرة يمكن قمعها حتى لا تطفوا على سطح الوعي، أو كذاكرة يمكن التلاعب بها لتختلف عما حدث فعلاً . وهو هنا يتماهى وبذكاء ملحوظ مع الاتجاه المتصاعد في السنوات الأخيرة لدراسة العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، والبناء الاجتماعي للذاكرة الجمعية.
يعلق المخرج على الفيلم بقوله
" إذا كان النسيان ضروريا حتى تستمر الحياة بعد المجزرة، فالتذكر ضروري ولو بعد مضي 26 عاما على المجزرة( ..) صنعت هذا الفيلم لأولادي كي يحاولوا حين يكبرون عدم المشاركة في أي حرب". ويضيف "أعتقد أن آلاف الجنود الإسرائيليين خبئوا ذكرياتهم حول حرب لبنان في أعماقهم السحيقة. ولكن ذلك قد ينفجر في يوم ما محدثا أضرارا لا أعرف حجمها".
اختتم " فولمان" فيلمه بـ50 ثانية من الصور الواقعية البشعة لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث صرّح للصحفيين "لم أكن أريدكم أن تخرجوا من العرض بعد مشاهدة الفيلم وأنتم تفكرون في أن هذا فيلم رسوم متحركة لطيف وظريف" وأضاف "هذه الاشياء حدثت، آلاف الناس قتلوا، ولكي يوضع الفيلم في نصابه كانت هذه الثواني الخمسون ضرورية بالنسبة لي".
لكن في الختام بدى لي أن العنوان الأنسب للفيلم ليس " فالس مع بشير" وإنما "كيف تريح ضمير الجلاد؟" إذ أنه لا يمكن إدراج المقاربة النفسية المفصولة عن جوهر العلاقة بين الضحية والجلاد، وهي علاقة في جوهرها ظلم واغتصاب المستعمر للمستعمر، لأرضه أو لروحه سيان، إلا في إطار معادلة " أقتله ثم اذرف الدموع عليه" والتي يُعبر عنها في الثقافة الأنجلو/ساكسونية بعبارة" ”shoot and cry“.
[نشر للمرة الأولى في جريدة "الأخبار" اللبنانية وجدلية تعيد نشره بالإتفاق مع الكاتب.]